التراث السعودي غير المادي

28 ديسمبر 2024
Taleed
التراث السعودي غير المادي

التراث الثقافي غير المادي في المملكة العربية السعودية هو شاهد حي على عراقة الماضي وسحر الحاضر ،إنه إرث متجدد يحمل في طياته حكايات الأجداد ويعكس هوية أصيلة تأبى الاندثار، وتجسد روح السعودية التي تجمع بين الأصالة والإبداع.

تراثنا ليس مجرد سردٍ لتاريخ مضى، بل هو نبض يومي يعاش بحبٍ وفخر. من عبق القهوة العربية التي تجمع الأهل والأصدقاء حول دفء المجالس، إلى جماليات الخط العربي الذي ينطق بلغة الأصالة، يبقى كل تفصيل في هذا التراث شاهداً على عراقة الوطن وقيمه الراسخة.


رحلة عبر التراث :

في هذه المدونة ندعوكم للغوص في صفحات التراث الثقافي غير المادي للمملكة العربية السعودية، تلك الكنوز التي أدرجتها اليونسكو كاعتراف عالمي بقيمتها وأصالتها ،إنها ليست مجرد روايات من الماضي، بل نبضٌ حي يعكس ثقافة وطنٍ يعتز بجذوره ويبدع في تقديم هويته للعالم.

كل عنصر من هذه العناصر يحكي قصة أصيلة، يربط بين الماضي والحاضر، ويؤسس لمستقبلٍ مشرق ، انضموا إلينا في هذه الرحلة لاكتشاف هذا الإرث الثمين وتسليط الضوء على تفاصيله التي تجعل من الثقافة السعودية علامة فارقة في ذاكرة الإنسانية.



آلة السمسمية .. أوتار تهمس للبحر

في أمسيات السمر على سواحل البحر الأحمر، تعزف السمسمية ألحانها، لتحكي قصص البحّارة وأسرار البحر. هذه الآلة الموسيقية التقليدية ذات الخمسة أوتار والسلم الخماسي، تُعد رمزًا للتراث الثقافي السعودي في المناطق الساحلية، بتصاميمها المميزة وصوتها العذب.

ارتبطت السمسمية بفنون شعبية مثل “الصهبة” و”السمسرة”، المعروفة بإيقاعاتها المبهجة وكلماتها التي تجمع الفرح والحكمة، وقد زيّنت الأفراح والاحتفالات ورافقت البحارة في أسفارهم، لتمنحهم الراحة والبهجة وسط رحلاتهم الطويلة.



الحناء .. نقوش الفرح

ينمو نبات الحنّاء في الأماكن الحارة، وتحصد أوراقه مرتين سنويًا ثم تجفف وتطحن لصنع عجينة تُستخدم في تزيين الشعر واليدين والقدمين، تختلف طرق تحضير العجينة حسب الاستخدام، حيث يُعتبر الحناء رمزًا للفرح ويُستخدم في الحرف اليدوية وأغراض طبية مثل علاج أمراض الجلد ، في السعودية يرتبط الحناء بمناسبات الزواج حيث تتزين النساء بنقشه على اليدين والقدمين في “ليلة الحنّاء” التي تسبق الزفاف.


الورد الطائفي .. عطر الأصالة والجمال

بأريج الورد الطائفي الفريد تنبض روح الطائف وتراثها العريق، ينمو هذا الورد في أعالي جبال الطائف، ليمنح العالم أرقى العطور والزيوت الطبيعية.

يشكّل الورد الطائفي دعامة أساسية للاقتصاد المحلي، فهو يدخل في صناعة الزيوت، ماء الورد، والحلويات، ويُعرف بجودته العالمية التي تزين أفخم المناسبات والضيافات الملكية.

الورد الطائفي ليس مجرد زهرة، بل هو رمزٌ للأصالة والرقي، يعكس كرم أهل الطائف وتراثهم، لينشر عبيره في الأرجاء ويظل عنوانًا للجمال الأبدي.


الخط العربي .. جمال يكتب بمداد الروح

الخط العربي فنٌّ لا ينحني للزمن، بل يزداد بريقًا مع كل عصر ، يعود تاريخ الخط العربي إلى بدايات الإسلام، حيث أصبح فنًا بديعًا لتزيين المخطوطات والمساجد ، تطوّرت أنواعه لتشمل النسخ والثلث والديواني وغيرها ، يرمز الخط العربي إلى الهوية الإسلامية والثقافة العربية العريقة ويُعدّ تجسيدًا للجمال والدقة والروحانية.


الصقارة .. حكاية عشق بين الإنسان والصقر

في فن الصقارة يتجلى الرابط العميق بين الإنسان والطبيعة، حيث يُمثل الصقر رمزًا للشجاعة والقوة، بينما يُجسد صاحبه الحكمة والإلمام بلغة الصحراء، تُعد الصقارة أو البيزرة من أعرق الحرف التقليدية في المملكة العربية السعودية، وتركز على تربية الصقور وتدريبها للصيد بأسلوب يتطلب صبرًا ومهارة عالية.

أكثر من مجرد هواية الصقارة هي رمز وطني يحمل إرثًا ثقافيًا أصيلًا، يعكس شغف السعوديين بها وحبهم لهذا التراث لدرجة أن بعضهم سمّى أبناءه بأسماء الصقور إعجابًا بما تحمله من صفات فريدة.


المجلس .. حيث تُبنى العلاقات

المجلس هو أكثر من مجرد مكان للجلوس إنه قلب الثقافة السعودية وأحد أهم عناصر الضيافة والكرم ، يمثل نقطة التقاء الأجيال حيث تلتقي الأصوات وتتعانق الذكريات، في المجلس تُسكب القهوة العربية وتُسرد الحكايات التي تربط الأفراد بتاريخهم وهويتهم ، يحرص السعوديون على أن يكون المجلس مكانًا يعكس قيم الأجداد، ومثالاً حيًا على الترابط الاجتماعي ،هنا تتلاقى العقول لتبادل الآراء، وتُناقش القضايا اليومية، مما يجعله ملتقى حيويًا في كل منزل، يرحب بالجميع دون استثناء.


حداء الإبل .. موسيقى الصحراء

بصوت الحداء كانت القوافل تسير بثقة عبر الصحراء، إذ لم يكن مجرد غناء بل نداء يعكس الصبر والعزيمة في رحلات تختصر الحياة بأكملها.

هو تعبير شفهي تتناغم فيه ألحان متعددة، يرددها الرعاة ويصاحبها بعض الصيحات، تستخدم لاستدعاء الإبل وإيصال رسائل خاصة في مناسبات متنوعة، مثل دعوة للتجمع في الصباح، أو الاجتماع حول مصدر الماء، أو اللقاء في المساء خلال “المرواح”. ولم يكن فن الحداء مقتصرًا على الرجال فقط، بل يشمل النساء والأطفال الذين يتم تدريبهم عليه منذ الصغر.


النخلة .. سيدة الأرض وملهمة العطاء

النخلة ليست مجرد شجرة، بل هي رمزٌ عميقٌ في التراث السعودي، تُعتبر أمًّا معطاءة تمد الأرض بالخير والظل، وتمنح الحياة بهاءً لا ينضب ، تمثل النخلة في المملكة العربية السعودية رمزًا وطنيًا، وتعد مصدرًا غذائيًا أساسيًا وموردًا اقتصاديًا حيويًا، تظهر النخلة بشكل بارز في الشعار الرسمي للمملكة وعلمها، حيث يتقاطع بالقرب من ساقيها سيفان عربيان في إشارة إلى القوة والشجاعة، مما يعكس مكانتها الكبرى في الثقافة السعودية وتاريخها العريق.


الهريس .. عبق التراث على مائدة السعوديين

في كل ملعقة من الهريس تنبض حكايات الأجيال التي حافظت على هذا الطبق الأصيل، إرثًا يعكس قيم الكرم والأصالة.

الهريس يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث الشعبي السعودي والخليجي، ويحتل مكانة خاصة في شهر رمضان، الضيافات، وحفلات الزفاف ، تسجيله في قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو يُبرز رمزيته كجسر يربط بين الأجيال ويحفظ الهوية السعودية التي تتناغم فيها النكهة مع عراقة التقاليد.


العرضة السعودية .. سيفُ العز والفخر

على إيقاع الطبول ونبض الحماس، تتجلى العرضة السعودية كلوحة وطنية تروي قصة الوحدة والقوة ، رقصة لا تهز الأرض فقط، بل تلامس القلوب وتُعلن مجد الوطن بشموخ السيوف وزهو الألحان.

هذا الموروث الثقافي العريق انتقل من ساحات المعارك في التاريخ السعودي ليصبح رمزًا للفخر في الاحتفالات الوطنية والمناسبات الرسمية ، تعد العرضة جزءًا من البروتوكول الرسمي لاستقبال رؤساء الدول والاحتفاء بالمناسبات الكبرى، حيث توحد الصفوف وترفع السيوف عاليًا في سماء العز.

تتجسد روح العرضة في الشعر الحماسي الذي يعكس روح الوطن، وتكتمل روعتها بأزيائها التقليدية التي تُنسج خصيصًا لها، مثل: المرودن، الصاية، الزبون، المجوخ، والفرملية، لتصبح العرضة السعودية رمزًا خالدًا للشجاعة والفخر الوطني.


القهوة السعودية .. دفء الأصالة

"مرحبًا ألف " هو ما تقوله القهوة حين تستقبل ضيوفها، تُسكب بكرمٍ في دلالها الذهبية، لتروي قصص الضيافة السعودية العريقة، ليست مجرد مشروب بل موروث ثقافي يجسد قيم الكرم والأصالة المتجذرة في تاريخ المملكة.

القهوة السعودية هي رمز للضيافة ومفتاح البروتوكول الرسمي لاستقبال الوفود ورؤساء الدول ،وفي خطوة تعكس الاعتزاز بالإرث الثقافي أعلنت وزارة الثقافة السعودية في 31 يناير 2022م بالتعاون مع وزارة التجارة اعتماد اسم “القهوة السعودية” رسميًا في جميع المطاعم والمقاهي داخل المملكة.

هذا الإعلان جاء ضمن مبادرة “عام القهوة السعودية 2022” ليبرز التنوع الثقافي في طرق إعداد القهوة بين مناطق المملكة، وليحتفي بفنجان أصبح عنوانًا للكرم السعودي وروح التراث.


البن الخولاني .. إرث الجبال وذهب المجالس

من أعالي جبال جازان ينحدر البن الخولاني حاملًا عبق التاريخ ومذاق التميز، ليصبح رمزًا للأصالة والكرم في المجالس السعودية. يُزرع هذا البن الفريد منذ أكثر من 300 عام على أيدي قبيلة خولان بن عامر، التي أهدته للعالم كواحد من أغلى أنواع البن وأندرها، مستحقًا لقبه “الذهب الأخضر”.

ما يميّز البن الخولاني هو رائحته الزكية وطبقته الزيتية التي تضفي عليه لمسة من الفخامة. ليس مجرد محصول بل مصدر فخر وركيزة اقتصادية لمزارعي جنوب المملكة، يجسد جودة المنتجات المحلية وتراثًا زراعيًا عريقًا.

في كل فنجان من البن الخولاني تُسكب حكايات الأرض والضيافة، لتبقى نكهته شاهدًا على إرث المملكة وأصالة كرمها.


حياكة السدو .. دفء الماضي بين الخيوط

السدو ليس مجرد نسيج؛ بل هو لوحة صاغتها أنامل نساء البادية بحب وصبر، لتحكي قصص الصحراء وظلالها ودفئها في لياليها القاسية. يُعد حياكة السدو من أقدم الحرف التقليدية في بادية الجزيرة العربية، حيث يُنسج من وبر الإبل، وشعر الماعز، وصوف الأغنام، في تناغم يعكس جمال الطبيعة وروحها.

تتميز نقوش السدو الكثيفة برموزٍ ومعانٍ تفهمها قلوب البادية، وتُعد بمثابة لغة زخرفية تعبّر عن هويتهم. وكما هو الحال في فن القَط العسيري، كانت النساء السعوديات هن المبدعات وراء هذا الفن، مضيفات لمساتهن الساحرة التي جعلت السدو رمزًا للأصالة والتراث.

السدو ليس مجرد نسيج؛ إنه شهادة على التراث السعودي العريق وإبداع المرأة في رسم هوية وطنها بخيوط الحنين.


القط العسيري .. فن الألوان وروح التراث

على جدران عسير، تنبض الألوان بحكاياتٍ من التراث، ترسمها أنامل المرأة العسيرية بإبداع متفرد، لتُضيء البيوت وتُخلّد تاريخًا من الجمال ، يُعد القط العسيري أحد أعرق الفنون البصرية في المملكة يعود تاريخه لمئات السنين، ويعكس ذوق المرأة العسيرية وحسّها الفني الذي يتجلى في كل تفصيلة من زخارفه.

“القطاطة” هو الاسم الذي يُطلق على رسّامة القط العسيري، حيث تبدع في زخارف هندسية ونباتية تمتزج بألوان مشرقة، مستوحاة من الطبيعة المحيطة، لتزيّن جدران المنازل والأدوات المنزلية. هذا الفن ليس مجرد تزيين؛ بل هو رمزٌ للهوية الجنوبية وثقافة الألوان المبهجة التي تحتفي بالحياة.


النقش على المعادن .. بصمة الإبداع

في كل قطعة معدنية منقوشة، ينبض التاريخ بتفاصيل تحمل إرثًا فنيًا عريقًا، حيث أبدع الأجداد في حفر هويتهم وتراثهم على أسطح الذهب والفضة والنحاس.

تعود هذه الحرفة إلى قرونٍ مضت، وتُعبّر عن فن النقش الذي يتجلى في كلمات، رموز، أو أنماطٍ يدوية تضفي جمالًا ووظائف رمزية على القطع ، تنوعت النقوش بين المقعرة والمحدبة، لتزين المجوهرات والأدوات المنزلية وتمنحها قيمة زخرفية أو احتفالية.

لم تكن هذه النقوش مجرد فن، بل كانت رسائل عابرة للأجيال تحمل معاني اجتماعية وثقافية، حيث قُدمت القطع المنقوشة كهدايا تقليدية تعبّر عن التقدير والاحتفاء.


في كل خيط من خيوط السدو، وفي كل حرف من حروف الخط العربي، ينبض إرث أجدادنا وتاريخ وطننا. تراثنا الثقافي غير المادي ليس مجرد ممارسات أو فنون، بل هو مرآة تعكس هويتنا العريقة وروحنا الأصيلة التي عبرت الأجيال لتصل إلينا.

في تليد نؤمن أن الحفاظ على هذا التراث مسؤولية نحتفي بها كل يوم، ليظل عبق الورود الطائفية، إيقاع الحداء، وحرفية النقش على المعادن قصصًا تحكى للأجيال القادمة. إنه الماضي الذي يضيء حاضرنا ويمهد لمستقبل يليق بثقافة تعيش في تفاصيلنا وتزدهر بين أيدينا.

لأن التراث حياة لا تنتهي… تليد هو حارس الهوية و راوي الحكاية.